عقلاء الشيعة مدعوون لإعلان التمايز عن انحياز إيران لنظام سوريا

27 جويلية

هناك عدد محترم من العقلاء الشيعة في لبنان والبلاد العربية يتزايد ببطء وباستمرار أيضاً، يلح على التفاهم مع المختلف والمتفق، ويأبى الإذعان للقريب والبعيد على السواء، وهم يجاهرون، وإن اضطر بعضهم للمداورة طلبا للسلامة، بأن ايران لا تملك حقا حصريا في التعبير عن الرأي الشيعي، حتى في داخلها، تجاه احداث لها أثر متوقع على وجودهم – اي الشيعة – وحضورهم الفاعل في أوطانهم.

هؤلاء العقلاء لا يقطعون مع ايران بل هي التي تقطع معهم لانها تهتم بالولاء لها كيفما اتفق ولا تهتم بالمشاركة في الراي والرؤية والمصلحة.

وليس دقيقا ان هناك أكثرية شيعية حقيقية او نهائية، توافق على المسلك الايراني في الانحياز للنظام السوري. ولو فرضنا ان هذه الأكثرية حقيقية وغير مهددة بالتراجع الحاد بعدما تراجعت بالتدريج على مدى سنوات في لبنان وغيره، فهل ذلك كاف لدفع الشيعة الى حالة من الفصال والصراع وتحمل الضرائب الباهظة في البلاد العربية التي لا تنقصها العقول والقوى التكفيرية والالغائية؟

وقد تبادلت سلطات عربية معروفة الأخطاء مع قوى شيعية مدعومة على حساب الأكثرية الشيعية العقلانية والواقعية، ونحن الان امام مشهد يوحي بالمزيد من الأخطاء. 

هذا كله يعني ان عقلاء الشيعة مدعوون الان بقوة الى اعلان التمايز طمعاً بالتفاهم مع شركائهم في الايمان والدين والوطن وعلى اساس ان الحرية والعدالة والدولة المدنية هي الضمانة لسلامة ونهوض الجميع من اجل الجميع. 

و يعني ان السنّة في كل اماكن التعدد وغيرها مدعوون الى الانتباه الى مسؤوليتهم في تنشيط حركة الاندماج الوطني على اساس الإنصاف والمشاركة. 
ويعني ان السنّة في سورية، إسلاميين ووطنيين، مدعوون الى الاحتياط وتحصين سوريا ضد الفتنة التي لن تسلم من تداعياتها جماعة وطنية مهما كان حجمها. واذا فقدت سوريا المستقبل قدرتها على حماية التعدد وإدارته الحكيمة، فإنها سوف تدفع مجتمعة أثمانا باهظة.


و في النهاية ان كل جماعة مشروطة في امنها وحيويتها بالجماعة الاخرى، 
ومن هنا نحن بحاجة خاصة في سوريا الى اثبات جدارة المجتمع التعددي بالوحدة بعيدا عن اساليب الاستبداد وطبائعه.



ان مسيحية فاعلة في سوريا وبلاد العرب ضرورة عربية وديمقراطية عربية هي ضرورة مسيحية واسلامية وإنسانية وحضارية تقطع الطريق على التأثير الخارجي او تضبطه بقوانين الداخل ومصلحة الوطن والمواطنين جميعا سواء أتي من واشنطن او اوروبا او روسيا او الصين او ايران او تركيا او السعودية او غيرهم.

الفشل المذهبي

15 فيفري

قد يعبر أعضاء من حزب الله، عن رغبتهم في دولة شيعية في لبنان، لكن القيادة لم تقدم أدلة كافية على أن هذا هو اختيارها في المدى المنظور، ولعل تناقضات الحكومة الحالية في لبنان، والتي ولدت في بيت الحزب، تؤكد ان حكومة اللون الواحد، أو اللون المهيمن، في بلد متعدد، في غاية الصعوبة، بصرف النظر عن حجم نفوذ حزب الله، الذي يقلل منه البعض ويبالغ فيه آخرون.
طبعاً، ليس هناك مانع ولا إلحاح ايديولوجي، لدى حزب الله، للشروع في إنشاء دولته الشيعية، وان كانت الدولة الاسلامية (المذهبية في المحصلة) هي هدف كل فصائل الاسلام السياسي، محلاة بقشرة ديمقراطية مؤقتة أو من دونها، غير ان حزب الله، يبدي، احياناً، استيعاباً للثقافة المجتمعية اللبنانية التعددية، المانعة أي مغامرة شمولية، ما يعني ان الفشل سوف يكون في انتظار الحزب او غيره، اذا اقترف هذه «الفضيلة» التي تضيق عن تأصيلها المنظومة العقدية والذاكرة الشيعية ولا تكفي ولاية الفقيه (كحكم فرعي) وضرورة سياسية ايرانية (حصراً) لاسنادها، بعدما تعرضت الى اهتزاز عميق في بلد المنشأ.
قد يرى العقلاء في حزب الله، أنهم يخسرون حزبهم ومقاومتهم وطائفتهم ووطنهم، اذا هم اقدموا على هذا الفعل، رغم قدرة الحزب عليه اذا ما قاس الأمور على حجم المقاومة وقوة سلاحها وعديد الحزب وعدد ابناء الطائفة وقوة الدعم الخارجي المشكوك مع توسع الربيع العربي في بقائه على حاله.
لم ينجح حزب الله في تشكيل الحكومة الشقاقية في لبنان، ولكنه لم يفشل، باعتبار ان هيمنته لم تغره، حتى الآن، بالاستئثار على حلفائه وخصومه، واذا وقع في الاغراء وطمع او طمح الى أكثر، كان فشله اشد ذراعة.
في العراق، بعد سقوط النظام، وقع بعض السنة في الخطأ، عندما اظهروا وكأن سقوط النظام خسارة لهم، وان السياق التاريخي السني للعراق قد انكسر، ولكن هذا التصور لم يمنعهم من الدخول المتصاعد في العملية السياسية ما كان مفروضاً ان يؤدي الى مسح الخطأ. غير أن الخطأ الشيعي كان اغراء للسنة بالعودة الى الخطأ الذي يغري الشيعة بالخطأ كذلك.
لقد كان الخطأ الشيعي في البداية هو تصور بعضهم ان في امكانهم ومن حقهم (المذهبي) الذي قد لا يتطابق مع الحق او الواجب الوطني، أن يرتبوا على عددهم وحرمانهم التاريخي، دولة من دون شراكة وطنية كافية، كشف الفشل في تحقيقها لاحقاً، ان العصبية تسقط معايير الكفاءة من حساب الدولة، حيث ان الكفاءة والنزاهة من شروط المشروع الوطني لا الطائفي ولا حتى الحزبي.
لقد كانت هذه النبرة الشيعية مفهومة، نظراً لالحاح النظام البائد على تجريم الشيعة والفتك بهم مع غيرهم من السنة العرب والاكراد، وان كان نصيبهم من الفتك اكثر.
وكان مقدراً لهذه النبرة، او النتعة، ان تقف عند حد، عندما لمس المعنيون الشروط الميدانية لبناء الدولة، والشروط العربية للكيان، فأيقنوا ان دولة بغلبة شيعية «كاسحة» تجعلهم يخسرون العراق من دون ان يربحوا الطائفة، وتحمل خطر تحويل الاكثرية الشيعية في العراق، الى اقلية عربية يلعب فيها وبها العرب وغير العرب.

ألم يكن الحل الامثل هو الدولة الوطنية التي يحتاج بناؤها الى زمن وصبر وحكمة وشراكة؟ ويحتاج الى تأسيس لم ينجز… ولم يكن شفافاً الكلام الذي قيل عن النية في بنائها… وكانت السلطة، بما هي غنيمة من حرب الآخرين، هي البديل على اساس المحاصصة، فماذا يقول الجمهور الذي يعاني؟ يقول بأن الشيعة كقوة فاعلة، كانوا الأمناء على فكرة دولة المواطنة، بسبب معاناتهم من دولة الاختزال والمصادرة، ولكنهم (كطبقة سياسية) لم يبنوها، من دون ان يستطيعوا التنصل من مسؤولية عدم بنائها كما وعدوا، باعتبار ان اكثر المقاليد بأيديهم.

ما جعل مذهبيين آخرين (من السنة – عدنان الدليمي مثلاً) محكومين بنستالجيا سلطة لم تكن لهم بل كانت عليهم، ولم تقصر في قتلهم، يجاهرون بأن الدولة في العراق شأنهم واختصاصهم، مثبتين او متضامنين مع امثالهم من اهل الشيعية السياسية، ان المنظار المذهبي يحجب الحقائق الوطنية.
ليس الخطأ الشيعي بديلاً للخطأ البعثي، وليس الخطأ السني بديلا للخطأ الشيعي، والفشل البعثي لا يعني النجاح الشيعي، والفشل الشيعي لا يعني النجاح السني. ويلزم الجميع بالتمييز في المجال السياسي، بين المذهب والمذهبيين، حتى لا يبقى العراق ميداناً للارتكابات المذهبية، التي يبرر بعضها نفسه بالبعض الآخر امعاناً في الضلال والتضليل.

عاشوراء.. الحزن الذي يجمع

15 فيفري

قدمت صديقي الوجيه البحريني إلى صديقي المسؤول الإيراني، فالتفت الثاني إلى الأول قائلاً بلهجة يختلط فيها التعجب بالاستنكار: متى تكفون في البحرين عن إنتاج المبالغات والخرافات وإلصاقها بالتشيع وأهل البيت خصوصاً في عاشوراء؟ فارتبك ضيفي البحريني، وسارعت بتولي الإجابة نيابة عنه: فقلت: أنا أعلم ان المصنع عندكم بعدما نقلتم كل المصانع إلى بلادكم، وأصبحنا خارج المركز الإيراني مستهلكين أو معيدي توضيب للمنتج الإيراني لإعادة تصديره. والمسألة التي تعترض عليها ليست منحصرة في البحرين. وها أنا قادم من قريتي في الجنوب، ومقيم على باب ضاحية بيروت حيث أرى الكثير مما تعترض عليه، وأسمع تعليقاً إضافياً من أكثر الناس، على هذا البذخ المتعاظم سنة بعد سنة، على مظاهر عاشوراء، إضافة إلى بذخ رجال الدين والقوى والمؤسسات الدينية، مترافقاً مع ازدياد عدد الفقراء والمساكين واشتداد الفقر في كل مكان!
وتابعت قائلاً: إني أقدم لك شهادتي لإيران في ما يعود إلى انتباهها الشديد، حكومة وشعباً إلى ضرورة الاتزان (الداخلي) في التعاطي مع كل المناسبات الدينية، ما يعني انها تمارس سياسة مزدوجة في الثقافة، بين المركز الذي تقدم له منتوجات صحية، والأطراف التي يتم تعويدها على منتوجات لا تراعى فيها تماماً الشروط الصحية في الفكر والسلوك الديني.
وقد سمعت قبل عقود من الزمان، من خبير في الإنتاج الحيواني، زار معامل فرنسا للأجبان، زيارة عملية، وعاد ليوصينا بوجوب تجنب كثير من أنواع الجبنة الفرنسية المشهورة، مشدداً أكثر على نوع معين يلقى رواجاً فوق العادة في بلادنا ومنذ عقود، لأنه ـ كما قال ـ الأشد قذارة وافتقاراً إلى الشروط الصحية… وقال إنه لا يعرف أحداً من الفرنسيين يتناول هذا النوع، بل يُقبل على أنواع اخرى رخيصة، ان كان فقيراً، لأنه يعرف نظافتها كما عرّفتها له وزارة الصحة أو التموين، فإن كان غنياً فضل أنواعاً اخرى، أهمها وأشهرها ذلك النوع المتعفن وذو الرائحة المنفرة، لأنه الأفضل بإجماع الفرنسيين وجميع من يتكلمون الفرنسية.
وانتهينا مع هذا الخبير إلى معادلة لا بد من اكتشافها وكشفها، في مجالات السياسة والثقافة والدين والفنون والملابس وغيرها. وهي ان المبالغة في تجميل ظاهر الأمور قد يكون بسبب فظاعة أو بشاعة أو خطورة مضمونها، وأن إهمال المظاهر أو تخفيفها، قد يدل على سلامة المضمون.
قال الصديق الإيراني: ماذا تريد؟ قلت: من تجربتي القريبة جداً والتفصيلية، اشهد أن السلوك الإيراني، الشعبي والنخبوي، في عاشوراء، هو أقرب إلى العقلانية وروح الدين وذوق أهل البيت (ع)، وإن كان الأمر لا يخلو من استثناءات، أعرف أن القيادات الرسمية والدينية، لا تقصر في الحد منها بالحسنى، وبالمنع الشديد إذا اقتضى الأمر، وقد عشت شخصياً بعض التجارب في طهران في هذا المجال.

ولعله من أهم ما في إحياء عاشوراء في إيران، هو انها لا تعطل ولا تعرقل شيئا أو أمراً من أمور الحياة والعمل، وإذا ما أطلت على الشارع، فقليلاً، وللحظة، ثم تغيب وكأنها لم تكن… ولا يتم أي عمل إلا تحت سقف القانون والنظام والذوق العام، ولا يقع أحباب الحسين (ع) في المخالفة لحسابه وحساب الشهداء! لأنهم مؤمنون بأن أي مخالفة لا تكون إلا على حساب الدين وأهله والحسين وأهل بيته وأصحابه.
ولكن هذا لا يعني ان إيران الرسمية، حكومياً ودينياً، ليست المصنع الأكبر والأعظم لكل الإضافات والمبالغات والمستهجنات إلى المظهر والسلوك الديني الشيعي في مناطق الوجود الشيعي خارج إيران.. ولذلك أسباب كثيرة، قد لا يدخل في قائمتها النضال الشيعي مع السنة، إلا كنتيجة أحياناً، متأثراً بالأوضاع الخاصة في كل بلد.. إذ أن المطلوب والمقصود هو تكوين العصبية المذهبية كضرورة استمرارية وتمكين في السلطة، خاصة عندما تقصر في الوفاء بوعودها التنموية في أيام الثورة قبل الدولة.. وقد يمر هذا الغرض بإشكاليات التنافر مع الآخر الإثني أو الديني أو المذهبي، لأن العصبية القوية المفرطة لا تتم إلا بالمزيد من التمايز عن الآخر… وإن كان قريباً. ويمتد هذا التمايز ـ من أجل السياسة ـ من المعتقد والفتوى والمظهر، طول اللحية سلفياً مع قصر الثوب… وتعميم السواد شيعياً أخيراً مع نظرة شزر إلى من لا يتساود من غير نية سوء أو خروج من فضاء الحزن العظيم في عاشوراء.
في حين ان الآخر، من المسيحيين.. أو أهل مذهب إسلامي آخر، لا يكون أقل انشغالاً وإلحاحاً، على استحضار وتوليد الثقافة المفرّقة عن الغير، من غيرهم، وبأساليب ومناسبات مختلفة، تتذرع أحياناً بأساليب الآخرين من طقوسهم وإحياء مناسباتهم، في المركز أو في الأطراف، وإن كانت الأطراف أحياناً أشد اندفاعاً أو التزاماً بالمظاهر واستزادة منها، من المركز، كما شهدنا في تاريخ الأطراف الشيوعية واجتهادها في سبق المركز (الروسي) في تضخيم الوعي الفئوي.
وفي كل حال فإن لا أحد بإمكانه، أو من حقه، إلا في حدود ما يلحق به من ضرر مسلّم به من دون مبالغة، أن يعترض على إحياء عاشوراء وإظهار الحزن الجميل والشديد والعميق، وسكب الدموع الطاهرة المطهرة، من دون دم مجاني ومن دون لطم يتجاوز حدود اللطف والبطء والهدوء والعذوبة والجاذبية والإغراء بالمشاركة.. والذي يتوالى ويتهادى وكأنه موقع على نبضات القلب المحزون.. وبالأيدي النظيفة المغسولة بماء الوضوء أو تراب التيمم، على الصدور العامرة بالإيمان والحب، والتي لا يزيدها تذكار الحسين إلا حباً وشفافية وشوقاً على الآخر الشريك في الإيمان والوطن والمصير والوجع والحلم. والذي يأتي إلى عاشوراء من خارج سياقنا السجالي والانقسامي والكيدي الراهن والجاثم على صدورنا، تجذبه وتأخذه إلى المعاني الكبرى التي تدفعنا إلى فضاء أهل البيت وتتعاظم في هذا الفضاء فتعم وتجمع.. وتمتد يد المسيحي إلى صدره نادباً عندما يرى في طقس عاشوراء مثالاً لرتبة دفن المسيح.
والذي عاش وتذكر كيف كانت عاشوراء تحيا في أماكن الصفاء المذهبي، أو في أماكن الاختلاط والتثاقف والتعارف والتكامل المذهبي أو الديني، يلاحظ أن هناك تصاعداً أو تصعيداً في خط ترجيح وتغليب الخصوصية المذهبية على العمومية الوطنية التوحيدية أو الإسلامية، أو الإنسانية، يقابلها في الأمكنة الاخرى سلوك ثقافي يظهر عليه وكأنه ينتظرها ليبرر نفسه بها.. ما يعني اننا قد نصل متحدين ومتفرقين، إلى وضعها (عاشوراء) في الوجهة التي تعاكس خط سيرها التاريخي.. إذا ما استكملنا المسعى الشيعي الاستئثاري بها، والرد التنصلي السني منها.
ولو أننا سألنا الحسين (ع) لماذا خرج واستشهد لأجاب كما قال: «لطلب الإصلاح في أمة جدي» لا للإصلاح بين المسلمين، بل فيهم، لأنهم لم يكونوا وقتها منقسمين إلى سنة وشيعة، على حكام جائرين ومحكومين مظلومين… هذا، ولا بد من الانتباه إلى اننا الآن نعيش تحديات تختلف جذرياً عن التحديات التي عاشها الحسين (ع) والمسلمون مع حكم يزيد.. تختلف وإن تقاطعت في الخوف من الاستبداد والجور والفقر والجوع والمرض وغياب الحرية والعدالة.. كل هذا يعني اننا لسنا الحسين ولا الآخر يزيد.. وإن كان هناك من مستبد فهو مستبد آخر، قد يكون أخطر.. ولكنه ليس يزيد، وليس أموياً ولا عباسياً ولا.. ولا حتى هو الفرنسي القديم.. وهو الصهيوني القديم والجديد…
إذن.. فنصاب العداوة اختلف وأصبح أشد تعقيداً وإشكالية وأكثر حركة وتغييراً.. مع بغاء الثابت الصهيوني حتى تحرير فلسطين.. وعليه فلا بد ان تختلف أساليب التعامل معه، وأول شروط هذا التغيير نحو الأصوب والأجدى هو جعل فلسطين مقياساً ومعياراً.. ومن دون وصاية لأحد على شعب فلسطين وقواه الفاعلة، مع التفريق بين ضرورات هذا الشعب تحت الاحتلال وخياراتنا خارج الاحتلال، والعمل على مطابقة هذه الخيارات مع تلك الضرورات على المدى البعيد.
أما الحزن على الحسين.. والذي يجعل الحسين أمراً قابلاً للعدوى الحميمة لدى جميع الناس المستعدين لأن يكونوا حسينيين، بشرط الحكمة والتروي والجدال بالتي هي أحسن.. والشغل عند الحسين لحساب القيم التي ضحى من أجلها، لا تشغيل الحسين في ورشة أحد.. حتى لو كانت ورشة حق، لأن تخصيص الحسين يلغي عموميته وإن مؤقتاً.. وهذا أمر كريه مكروه.. الحزن على الحسين مسألة.. قيمة ينبغي الحفاظ عليها وتنميتها بالشراكة وتعميقها مضموناً لا شكلاً، يتحول بالمفاقمة إلى خطر على الحزن الذي نحرص عليه حرصنا على الفرح.. لأنه طريق آخر إلى الفرح عندما يجمع.
سمعت وسمع غيري ورأينا أناساً لم يقصروا في كره المقاومة.. وعندما حررت أعلنوا ولاءهم لها وأضمروا ثم صرحوا بأنهم يريدون ان يستمروا في انتهاك القانون والعدوان على مال الناس والمال العام وإدارات الدولة.. لأنهم قاوموا وانتصروا.
وسمعنا وقد نسمع أكثر.. نصابين وتجاراً ومروجي مخدرات يسخون على مجالس إحياء عاشوراء وعلى جمهورها بكل ما لذ وطاب، وقد يطالبوننا غداً بمناصرتهم لمنع ملاحقتهم (إن صار لنا دولة وقانون وقضاء يحكم بالعدل) لأنهم لبسوا سواداً وصرفوا مالاً على الحسين! وكأن الحسين يرضى بالمال الحرام! إذن فلماذا استشهد؟ ولماذا قاوم المقاومون واستشهدوا؟
ختاماً.. أنا من الجيل الذي تعلم في طفولته الرقة والحنان والانحياز إلى المظلومين من قراء التعزية البسطاء جداً في قرانا، حيث كانت التعزية طقساً جماعياً ودوداً.. يلعب النص فيه دوراً ثانوياً أحياناً.. ثم وعينا عاشوراء وثورة الحسين بالنص الأدبي الرفيع والعلمي العميق من كبار قراء التعزية في النجف (الوائلي وآغائي خاصة) ولكن فكرنا وثقافتنا العلمية، نحن وقراء التعزية.. كنا نستمدهما من علمائنا. حسناً أن يكون لدينا عدد كبير من قرّاء التعزية… ونحب أكثرهم ولا نكره الآخرين، ولكن طريقتهم لا تجتذبنا.. بل وتخيفنا أحياناً.. على أحفادنا. لا علينا.. ولا على أولادنا الذين علمناهم الحسين على طريقتنا.. ولكن هل يجوز ان تصبح التعزية هي ثقافتنا اليومية الشعبية الوحيدة.. ويغيب العلماء والمفكرون من أساتذتنا عن التداول.. ويجثم الحزن من الفجر إلى النجر! هذا ليس حزناً.. وأخشى أن يصبح بؤساً!!

اغنية على ممر الربيع العربي

15 فيفري

من حقي أن أتفاءل الآن وهنا بمستقبل البلاد العربية، أكثر من أي وقت مضى. والتفاؤل جزء من إيماني الشخصي، كما هو جزء من الايمان الابراهيمي الذي «أنتجته» بلادي ذات مرة، وأعاد هو إنتاجها مراراً… لكن الصحيح أيضاً أن هذا التفاؤل المقيم كان على الدوام «افتراضياً»، يستمد حضوره من «الرجاء» على قاعدة «مَنْ وثق بماءٍ لا يظمأ». غير أنني اليوم أعاين الماء يجري في حقول العرب، نابعاً من وجدان الناس، صافياً كالحقيقة، منعشاً كالحرية، وشافياً كالعدل. لم يخطئ العالم حين قال انه يشاهد «ربيع العرب».
وإذ أزعم أني كنت نزيلاً دائماً في خيمة الرجاء والأمل، فلا أجرؤ على الزعم بأني كنت أتوقع لقاء مع هذا الفارس الجميل في أيامي المقدرة. غاية ما كنت أتوقعه، ويرضيني، أن يحصل هذا اللقاء مع أبنائي أو أبناء أبنائي… ولا بأس اذا ما هرمت على رصيف الانتظار.
وقد لاحظت أن أبناء جيلي، على اختلاف المشارب والتجارب والمواقف ودرجات الاطلاع، قد فوجئوا مثلي بما حدث. ولعل الأكثر اطلاعاً من بينهم كان الأشد مفاجأة! وقد خيل الينا، في لحظة ما، أننا تعرضنا لما يشبه «الخدعة». ذلك ان هذا الشيء إنما أتى من خارج دفاترنا! فقد نظرنا في ذات الحديثة البالية، الماء الذي يجري فلم نقع فيه على فصيلة «الأمناء العامين» (ديناصورات الاحزاب) الذين داخوا ودوخونا عقوداً من الزمن بالايديولوجيات القومية والدينية، ذات اليمين وذات اليسار، وقطعوا أنفاسنا بمطاردة أذناب الامبريالية والصهيونية والاستعمار (هم متخصصون بقطع الأذناب… أما الرؤوس فلها رب يقطعها!). كلا ولم نقع على قائد ملهم يمتطي حصاناً أبيض أو متْنَ دبابة!

يبدو لي أن ما حدث قد خرج من مساحتين اثنتين للحرية، عصيتين على الضبط والرقابة. أما الأولى، فهي أعتق ما عرفته بلادنا، وأعني مساحة العبادة ومواقيتها صلاة الجمعة والعيد والتراويح، وأما الثانية فهي أحدث ما عرفنا، وأعني «مواقع التواصل الاجتماعي الشبابي الحر»، هاتان المساحتان اجتمعتا لتكوّنا ساحات الحرية وميادينها. ما فعلته هذه الساحات الجديدة هو أنها أعادت خلق الاجتماع الذي كانت قد بددته الدكتاتوريات وحولته الى أفراد خائفين ومعزولين. وما ان اجتمع هؤلاء حتى استشعروا القوة في مفاصل جسدهم الجديد. وعند أول مواجهة وأول شهيد، (بوعزيزي) سقط جدار الخوف، وأصبحت المعادلة واضحة في حساب الفريقين: في حساب الاستبداد فإن التراجع أمام الناس يطمعها بلا حدود. وعليه لا بد لهذا الاستبداد من المضي في طبائعه. وأما في حساب الناس الذين كسروا حاجز الخوف فتقول المعادلة ان المضي قدما وحتى النهاية أقل كلفة من التراجع بما لا يقاس… وهذه – في الجانبين – حسابات بقاء: نكون أو لا نكون!
ويبدو لي أيضاً أن سلمية الناس – في «غاندية» جديدة – وديموقراطيتهم ولا ايديولوجيتهم، هي الرصيد الحقيقي لفكرة السلام والعيش معاً في المنطقة. فإذا عطفنا هذه على قضية الاصلاح بوصفها قضية لا يمكن تفاديها أو تأجيلها أو الاحتيال عليها (كما يقول لسان حال الناس)، تقف معادلة الخلاص – ربما للمرة الأولى – على قدميها: السلام والاصلاح معا وجميعاً.
وبوصفي مهموما بقضية العيش معا في بلادي وفي ما يليها من بلاد الناس، فإني أقل خشية من أي وقت مضى على ما يسمّى «حقوق الاقليات». ذلك ان ظلم الاقليات انما نشأ من رحم ايديولوجية العنف وفي سياقاتها. وقد نكون أمام اقتراح تكوين أكثرية جديدة، على اساس السلم والاصلاح والديموقراطية، لا على أساس العرق والدين واخواتهما.. مؤكداً ان مصطلح الاقليات ليس دقيقاً، بل هو ظالم ومضلل… لأن اجتماعاتنا تقوم على المعنى المشترك، والجامع، لا على العدد المفرِّق… واليابس.

العلامة السيد هاني فحص : عقل حزب الله يؤهله لفتح ثغرة في الجدار

15 فيفري

رغم أن رجل الدين الشيعي اللبناني السيد هاني فحص يتفادى منذ فترة الحوار السياسي، لكنه في مقالاته التي ينشرها يبدو أشد ألمعية من غيره في القراءة بين سطور الحراك الاحتجاجي الجاري في أكثر من بلد عربي. 
الجواب الذي يقدمه السيد عن كل سؤال يحمل مضامين متعددة وقلقة لكنه يبشر بأمل وافد رغم معاناة الانتظار، لذا تجده أقل صخباً من غيره في معاينة ما هو ات من المحيط الى الخليج، مفضلاً التروي قبل اطلاق الأحكام المسبقة على قاعدة أن المجتمعات العربية التي أنهكها الاستبداد تحتاح الى فترة زمنية أطول كي تشفى من مرضها. 

ليس السيد بعيداً من «معجزة العرب» في مطالع القرن الحادي والعشرين، فهو يراقب بعين الرائي ويحاول جمع الخيوط لفهم ما يجري. لا تعرف حين تحدثه إذا كان سعيداً أو متوجساً مما يجري في الساحات العربية، لكنه لا يُخفي فرحه الحذر. الجواب عنده يبدأ بالتساؤل ما يجعله مفتوحاً على الاحتمالات والنتائج، وهذه الخاصية تضفي عليه خصوصاً لمن اعتاد الحوار معه رونقاً من النادر أن تجده عند رجال الدين على ضفتي الإسلام السني والشيعي. 

يرفض فحص تسمية الحركات الاحتجاجية الجارية بالثورات، لأن الثورة في رأيه تقطع مع الارث الثقافي والسياسي والديني، لذا يحبذ استعمال مصطلح «الحركات الاصلاحية» بديلاً من الانتفاضات أو الفورات التي وضعت تحت مسمى «الربيع العربي». الاصلاح بالنسبة اليه يتأسس على إيقاع تطور الوعي، أي وعي الأفراد والجماعات لمفاهيم الدولة والقانون والشراكة مع التعدد، ولعل هذه الثلاثية الذهبية تمثل صلب اقتناعاته حيال الآخر، الديني والسياسي.

الأسئلة المطروحة على فحص قد لا تنتهي بحكم صولاته وجولاته على العالم العربي والإسلامي، وهو من أكثر المعممين انفتاحاً ومعرفة بمجريات الأمور وخصوصا حول «التعملق الشيعي» الذي يشغل كثيرين في ذروة الانتفاضات العربية التي بدأت من تونس ووصلت الى مصر وليبيا واليمن وسورية وربما تكمل دورتها في إتجاه دول أخرى.

التقتينا فحص وأجرت معه حواراً حول قضايا متعددة من بينها: فوز الاسلاميين في الانتخابات التونسية والمصرية والأزمة السورية وتداعياتها ودور الأكثريات في المنطقة وملف البحرين. وفي ما يأتي وقائع الحوار

• منذ بداية الحركة الاحتجاجية في العالم العربي تداخلت التسميات حول طبيعة الحراك الشعبي. كيف تصنف ما يجري؟ هل هو ثورة أم فورة؟ 
– في تقديري وبحسب التعبير العلمي في الحوزة لا مشاحة في الاصلاح، ولا أجد مبرراً للجدال حول تسمية ما يحصل، ولكني أقول إنه ينبغي عدم التسرع في استعمال مفهوم الثورة، لأن الثورة أطروحة إلغائية، تلغي ما قبلها ثقافياً وإيديولوجياً وسياسياً. نستطيع القول إن الثورة الروسية أو الثورة الفرنسية أو الثورة الايرانية، هي بمثابة حركات إصلاحية، وقد يكون قسم منها أقل عمقاً. الحركات الإصلاحية تتعرض الى انتكاسات، فالثورة الفرنسية على سبيل المثال مرت بمخاض طويل استمر نحو مئتي عام قبل أن تصل الى بناء الجمهورية. وفي رأيي أن ما يحدث في العالم العربي عبارة عن حركات اصلاحية فيها إيقاع ثوري- تغييري وكان لا بد لها من أن تحصل على الأقل قبل مئة عام او أكثر وتحديداً منذ الاحتلال الانكليزي لمصر العام 1882. ما جرى منذ مرحلة الاستقلالات أن المجتمعات والدول والشعوب لم تتكون في الشكل المطلوب ما جعل نتائجها على مستوى الاجتماعي والسياسي غير ناجزة وأنتج كيانات سياسية لا ترقى الى مفهوم الدولة الحديثة، وهذا الأمر يتطلب تطور الوعي، ورغم تقدم نسبة التعليم لم تتقدم نسبة الانتاج والنضج والموقف من المرأة، وكانت الأجيال السابقة منهكة تفتقد الحريات والخبز ولا أمل لها بالمستقبل، وكل هذا رافقه ردة مرضية نحو الماضي وحتى الفئة المثقفة بإستثناء عدد ضئيل منها سيطر عليها اليأس. 

• مع نشوء الدولة الوطنية توارث الحكم في العالم العربي ثلاثة نماذج، العسكر والأنظمة الملكية والجمهوريات المأزومة. لماذا لم ينجح العرب طوال الفترة الماضية في بناء الدولة الحديثة القائمة على تداول السلطة والتي تمثل أحد مطالب الحركات الإحتجاجية الجارية؟ 
– أحد أبرز الأسباب التي منعت نشوء الدولة الحديثة أن الأطروحات التي حكمت سعينا الى بناء الدولة أطروحات غير مكتملة. اطروحات الإسلاميين تولاها عقل ما قبل الإسلام إذ تصادم مع الحداثة في شكل فاجر، وفي الوقت نفسه البديل المدني لم ينجح في أن يكون علمانياً بإستثناء ما حصل نسبياً في تونس مع الرئيس بو رقيبة. المشكلة الثانية أن وعينا للدولة الحديثة أو الدولة المدنية لم يكن ناضجاً، لأنه لم يحمل في مكوِّناته ثقافة مدنية حقيقية، ما أدى الى تغليب العصبية والعودة الى الماضي والى الإسلام والعروبة بمعناها العنصري وليس الفعلي. وهنا أريد أن أقول أننا لم نملك ثقافة الدولة وثقافة القانون فتحولنا من سلطة القانون الى سلطة التكليف السلطوي، ورغم البعد الاستعماري للغرب ومؤثراته علينا، لا بد من شكر الغرب لأنه أسس لشكل من أشكال الدولة، وأحمّل المسؤولية للغرب لأنه كان في إمكانه أن يعقد معنا عقد مصالح متبادلة يصب في مصلحته ومصلحتنا، وفي تقديري أن الغرب سيخسر كثيراً إذا لم يكفّ عن وضع العراقيل أمام جهودنا في سبيل بناء الدولة الحديثة، علماً بأننا نستطيع إتهام الحركات الاصلاحية السابقة بما قاله علي صالحي السعدي: «إننا دخلنا الى الحكم بقطار أميركي ونخرج بقطار أميركي». لا أريد القول هنا إن الثورات في العالم العربي حصلت بدفع أميركي ولكن واشنطن ركبت فيه حين تحرك قطارنا، ومن المهم إعادة تشكيل وعينا من جديد للخصومة والصداقة والغرب. هذه الحركات الجارية في العالم العربي تدعو الى الطمأنينة لأنها تتحرك من دون زعامات وللمرة الأولى يكون الحضور الشعبي هو الأساس، وأجمل ما فيها أن الشباب المتعلم الباحث عن الحرية والعدالة والخبز هو مصدر حيويتها، والأهم أن أفكاره تفرض نفسها على الجميع الى درجة أن الأحزاب العقائدية والشمولية مضطرة الى التكلم مع الليبرالية، ما يعني أنها تراعي أفكار الشباب الذين يقبلون بها كثمرة ديموقراطية وإن اختلفوا معها. المهم ألا تتحول هذه الزهور الديموقراطية والمدنية أشواكا وأن تستمر مسيرة التمدن والتمدين، وهذه أفضل طريقة لحفظ حضور الدين في حياتنا، لأن محاصرة الدولة بالدين يؤدي الى إلغاء الدين والدولة تماماً كما فعلت الشيوعية مع الماركسية.

• تتحدث أدبيات الإسلام السياسي دائماً عن الأمة والجماعة ما أدى الى إلغاء الفرد وتكريس الأنظمة الشمولية تحت مظلة الدين. هل تعتقد أن الحركات الإسلامية التي وصلت الى الحكم في مصر وتونس قادرة على تجاوز هذا المفهوم؟
– الدين فردي، وهذا الكلام ليس ضد الجماعة، والخلاص فردي والقرآن يؤكد هذا المعنى، وبالتالي فان الاعتقاد بأن الخلاص في الجماعة ضد العدل، وليس هناك 73 فرقة وليس هناك فرقة ناجية. الجماعة لا تخلص لأن الدنيا والآخرة والجماعة لا تتأسس إلاّ على الأسطورة، والأسطورة إلغائية وضيقة وتنمي إرادة العزل والاقصاء والعنف والتطرف والتكفير وتلغي التواصل داخل الوطن الواحد. أما مفهوم الأمة أي الأمة العربية – الإسلامية فلم يتبلور حتى الآن بمعنى الوطن، بل هناك مجموعة من الكيانات الوطنية الناجزة كفكرة وإن كان وعينا لها يقل في مكان ويعلو في مكان لأسباب تاريخية. ولعل مصر هي المثال الساطع على عمق الوعي الكياني أي الوطني الذي بلغ ذروته ولم يقطع مع العرب، إذ ليس هناك في العالم العربي وعيٌ وطني يعمق الوعي العربي. إن العمل على مفهوم الأمة أدى الى تدمير الكيانات وقسمها طبقياً وقسمها بين حاكم ومحكوم وقسمها إثنياً وطائفياً. وقد قامت دولنا ذات الطرح القومي على تحريك عوامل الفتنة في مكونات الاجتماع وعطلت الحوار بيننا وبين المجتمع. أنا مع الأمة بمعنى الوطن، والمطلوب هو التضامن العربي، وبذلك يستقر الإسلام، والشيء المهم أن المجتمعات العربية لديها شعور عميق بالتضامن والتكافل غير المشروط أبداً بالدولة – الأمة أي الوحدة السياسية، ومن الأفضل للحكومات العربية مراعاة مشاعر اجتماعها الثقافي، ومفهوم الأمة في الاسلام ليس مفهوما محسوسا بل هو مفهوم عقائدي وليس بالضرورة أن يتحول مشروعا سياسيا، علماً بأنه لا يمكن التأسيس لهذا الهدف لأن مجتمعاتنا الوطنية تمت في شكل غير متكامل. أكثر من ذلك، لاحظت في الحركات الشعبية الجارية في العالم العربي حجم حضور الكلام على فلسطين في شكل تخطى الانقلابات العربية السابقة، فلسطين في الحراك الشعبي حاضرة بعمق وهدوء وهذا شيء مطمئن وخصوصاً إذا كان قائما على فكرة بناء الدولة في مصر وتونس وبالتالي فإن الحرية والعدالة أهم ضمان لمستقبل فلسطين.

• الحركات الإسلامية في العالم العربي بقي جزء كبير منها خارج الحكم في السابق، لكن اليوم بعد الانتخابات التي جرت في تونس ومصر والمغرب احتلت موقع الصدارة. كيف تفسر ذلك؟ 
– من الناحية الديموقراطية لا بد من أن نرحب بهم شرط أن لا تكون الديموقراطية عندهم مقدمة لإلغاء الديموقراطية. اما لماذا؟ لأن الأحزاب المدنية العربية فشلت وانكشفت، والسلطات استغلت هذه المسألة واعاقت نشوء أحزاب مدنية غير عقائدية، ما أدى الى إنتاج فراغ سدته الاحزاب الإسلامية التي تتمتع بدرجة عالية من التنظيم وتتغذى على الماضوية وكل ذلك ساعدها في التصدي لطروحات الحداثة السياسية، وقد ينطبق ذلك على «الاخوان المسلمين» في مصر وخصوصا أنهم وظفوا مظلوميتهم. يبقى أن التيار السلفي غير منظم بالمعنى الحزبي لكنه منظم بالمعنى العقائدي والثقافي، فهو كان محل رعاية من قبل النظام السابق في مصر وفي بعض الدول العربية. الى ذلك فإن تيار الحداثة الليبرالي سعى الى إلزام الآخرين أفكاره وشعاراته ولم ينفصل عن المسجد ولا قاطع الشعارات الإسلامية التي رفعت في التظاهرات لأن هذه الشعارات مكون في ثقافتنا، وليس المطلوب محاربتها بل تجديد وعينا لها وهذا لا يحتاج الى دولة دينية.

• ما الذي تحتاج اليه الحركات الإسلامية التي حققت نسبة تمثيل مرتفعة في صناديق الاقتراع كي تتصالح مع مفاهيم الحداثة السياسية؟ 
– في إختصار شديد تحتاج الى أن تكون لغتها المدنية لغة حقيقية لا ذريعة للوصول الى السلطة وأن تكون اقتناعاتها عميقة وهذا من ضرورات الإسلام، وعليها أن لا تميل نحو الاستئثار لأن قيم الاسلام في العدالة النهوض لا يمكن حفظها إلاّ بالشراكة. 

• ماذا عن دور الأكثريات الدينية أي الأكثرية السُنية تحديداً. ألا تعتقد بأن المطلوب منها اليوم فتح قنوات الشراكة مع التعدد بوجهيه الديني والسياسي؟ 
– إذا سلمنا بصدقية مفهوم الأكثرية وأنا أسلم لأن الأكثرية سُنيّة على مستوى السلطة والثروة، وهذا ما يلزمها المسؤولية وأن لا تبحث عن حصصها، وإذا أرادت أن تحكم بإسم الأكثرية عليها ان تكون حاضنة للأقليات لأنها إذا لم تفعل ذلك تصبح أقلية. وفي رأيي أن الدولة الصحيحة هي دولة الأفراد وليس دولة الجماعة، علماً بأني ضد مفهوم الأقليات، ليس كوجود بل وفقاً لطريقة التعامل. ليس كل شيء العدد، المهم هو المعنى والدور وإلاّ لا وجود لأكثرية ما إلاّ في مقابل أقلية ما. ليس المطلوب أن تحمي الأكثريات الأقليات إنما المطلوب تعزيز وجود التعدد وضرورته. والدولة المدنية الديموقراطية دولة الأفراد وهي أهم ضمان لحفظ هذا التعدد، وقد نسمح لأنفسنا أحياناً بموافقة المسيحيين على خوفهم من الآتي باعتبار أن الاستبداد العلماني أو شبه العلماني أخف وطأة عليهم مادياً من الاستبداد الأكثري- الديني، لأنه قد يلغيهم مادياً ومعنوياً. نريد للغة الناعمة لدى «الاخوان المسلمين» أن تكون لغة مقصدية وليست لغة براغماتية تحديداً في التعامل مع الأقليات، علماً بأن الاقلية في العالم العربي هي الأكثر أصالة والأكثر عراقة في تاريخ البلاد. 

• كيف تقارب الأزمة السورية؟ وكيف تقوم أداء المعارضة والنظام؟ 
– الباطل في كل البلاد العربية واضح ولا يختلف عليه إلاّ الأعمى. الحق معقد يحتاج الى زمن والى أطروحة، وهذه المعارضات السورية التي قامت وراء الشعب متعددة ولا تملك أطروحة مشتركة. يضاف الى ذلك أن زمن المرض كان طويلاً وزمن الشفاء سيكون أقصر من زمن المرض. إذاً هذه المعارضات غير جاهزة ولكنها مصدر طمأنينة.

• في حال سقط النظام السوري ماذا تتوقع أن تفعل إيران و«حزب الله»؟ 
– في رأيي أن إيران و«حزب الله» لا خوف عليهما، وخصوصاً إيران كمصدر قرار لأنها دولة تؤمن بقيم السوق السياسية والاقتصادية، وسوف تتعامل مع الموجود. وأحب أن أقول أن عقل «حزب الله» يؤهله رغم كل التوترات لفتح ثغرة في الجدار،
وأتمنى ألا تكون الأبواب قد أوصدت تماماً بين السيد حسن نصر الله وسعد الحريري، واعتقد ان اتفاقهما على مشروع تسوية يشكل جاذباً لكل الحلفاء. هذا يجب ان يتم بصرف النظر عن نهايات الوضع في سورية لأننا في حاجة اليه.

• من المسؤول عن التأجيج المذهبي في لبنان؟ 
– التأجيج المذهبي لا ينحصر في لبنان، بل موجود في كل البلدان العربية والكل يتحمل المسؤولية، وحتى لو اجبرت القوى الشعبية المتحركة اليوم في التظاهرات على ممارسة اللعبة الطائفية فهي ستعود الى الاندماج، وكلما تقدمت جميع الفئات نحو طريق بناء الدولة تراجع الانقسام السياسي والمذهبي. 

• ثمة وجهة نظر تقول أن الأنظمة الملكية تريد الالتفاف على الملامح الأولية للديموقراطيات الناشئة في العالم العربي عبر الترويج للحركات الإسلامية المعتدلة والسلفية. ما رأيك في ذلك؟ 
– تتعامل بعض الأنظمة العربية التقليدية مع الحركات الشعبية الجارية في الوطن العربي من موقع التغطية على أزمتها، ونحن لا ننصحها باللعب على حركات الشعب بل اللعب معها. 
• ماذا عن ملف المعارضة في البحرين وخصوصاً أنك على معرفة بهذا الموضوع؟ 
– الشعب البحريني شعب مظلوم وانا أقول الكلام عن خبرة بعدما قمت بدور متواضع ولكنه صادق من أجل تقريب المسافات وقبل الشيعة بذلك. الدولة هي التي تتحمل مسؤولية التهميش وهناك من يستفيد من هذا الوضع بسبب الفراغ، هذا لا يعني أن بعض الشيعة ليس لديه طموحات غير منطقية ولكن على السلطة ألا تعطيهم مبرراً، وعليها تقبل التعدد والرأي الآخر وأن تلغي المسافات بين أوساط المعارضة الشيعية – السنية. في دولة مثل الكويت رغم كل القلق الحاصل ثمة ميل متنامٍ نحو الديموقراطية والتعددية وتعالج المسألة المذهبية بأقل اضرار، ونأمل في أن تترقى هذه المعالجة بحيث تكون نتائجها الايجابية عميقة وبنيوية وخصوصا بعدما مرت الكويت بتجربة الاحتلال واكتشفت وحدتها. على الجميع أن يأخذوا في الاعتبار أن أي تأثير خارجي على جماعة ما لا يتم إلاّ عبر القوانين والسلوكيات التي تحكم الداخل، وكل ثغرة تحدث في جسم المجتمع الكويتي أو غيره سوف تُملأ بشيء ما.

كمال جنبلاط مات.. بل شُبّه لهم

15 فيفري

لكم حيرني إلحاح وجيه من قريتي على الحديث مع والدي عن كمال جمبلاط. كلما كنا عائدين من دكان القرية، قبيل الغروب، الى بيوتنا، وأنا متعلق بذيل أبي خوفاً، من لا شيء، لم يكن في قرانا وقتها ما يخيف سوى الأفعى والضبع التي لم تقتل ولم تأكل أحداً.. وهناك دائماً خوف عميق من اسرائيل، والظالم، ثم حدث ما حدث ويحدث.. وصار الواحد منا يخاف من الآخر، جاره أو شقيقه، أكثر من الضبع.. أما الواوية والثعالب فقد (كانوا) حرامية لطفاء. ونشتاق إلى أصوات كورالهم الآن أكثر من الماضي.
وكان لي ترب يجيء من بيروت صيفاً من أجل التين والعنب وأعشاش العصافير، يعرف في الأخبار أكثر مني، ويتحدث كما سمع من جاره، عن كمال جنبلاط، وأنه نحيف جداً، ضعيف الجسد قوي العقل جداً، وعنيد جداً، ومحيِّر جداً، وإن بدا حائراً جداً.. ثابت مقيم على الزمان المطلق، على المطلق :« بأني أزل». «أنا المطلق».. متغير أكثر من المتغير، حيث يصبح المتغير حافظاً للثابت، ونسبي أكثر من النسبية، ومن أي نسبة، طالما أن النسبية هي شرط المطلق، والمقام الذي يستبين به المطلق لأنه يباينه، ليغدو المباين، المختلف، شرطاً وجودياً ومعرفياً لمباينه.. هذه تعبيراتي الآن عما فهمته قبل ستين سنة أو أكثر بقليل، من حديث تربي.. بعد عشرين سنة أو أكثر، عندما قرأت وسمعت ورأيت وبدأت أسأل، وحلمت بفلسطين والعدالة الاجتماعية والتقدم والحرية، وأنا على حذر شديد، ولأسباب (حوزوية) من أن أقول (اشتراكية) لأنها مربوطة بالإلحاد. ولكني في الفقراء، هنا وهناك، ومنهم، والنجف كحوزة، أكدت لي أن المسافات الطبقية مسلمة تاريخية، ولم تستطع تدجيني وإن لطفتني، مع حسن نيتي وميلي الى السلام، وعشقي للنجف والكوفة والبصرة، والعراق حتى كردستان.. وعندما سقطت أو زمّت أو انكشفت، احزاب الكادحين، بقي الكادحون يكدحون. صاروا يكدحون أكثر ويأكلون أقل. وهنا يحلو أن أنتظر كمال جمبلاط، ولكنه لا يأتي، قد يأتي وقد لا يأتي. وأنا لن أصبر طويلاً، لأن المنظور الطبقي لم يعد في وعيي مدخلاً مجدياً في حل المسألة، وصارت قناعتي أن التنوير (أي العصرنة) هي الحل.

الجذاب
في شبابي.. شدني كمال جنبلاط، شداً خفيفاً، كنت أخشى على إيماني، من أهل الأسئلة والقلق المعرفي، لا من أهل الأجوبة الإلحادية السهلة. ولا أرى ان الخلاص الأخروي، فضلاً عن الدنيوي، محصور بجماعتي المذهبية أو خياراتها العقدية.. وكنت حائراً- انتهت حيرتي- بهذه المليارات من البشر، كيف تذهب جميعها الى الجحيم، من دون تفريق بين صالح وطالح، أو بين مبدع ومجرم؟ وهو، كمال جنبلاط، الزعيم العالم، درزي، وأنا هاني فحص طالب العلم الآن وغداً والى الأبد، شيعي إثنا عشري. درزي دلف من الإثنا عشرية الى الإسماعيلية فوصل الى إخوان الصفا، ووجد في رسائلهم فضاء معرفياً مركباً، متعدد الآفاق والأمداء، يتعدد إذ يتوحد، ويتوحد إذ يتعدد.. وطار الى الهند جامعاً كل شيء في بقجة الحب، من دون أن يتخطى صين (لاوتسو) وما قبله وما بعده، عابراً حدود (الفتوحات المكية) مطلاً منها على بودا والطاو والشنتو وبراهما، كائناً كل شيء في لا شيء، الذي إمّا بلغته، وهداك الله، عرفت وعاينت الشيء في اللاشيء.. وعرفت الواحد في كثير مطابقاً لكثير في واحد..
وعندما تحرر كمال جنبلاط، أو تحرروا (رهطه الموحدون) بالطريقة، جانحين الى الحقيقة، ليدركوا وإن لم يصلوا، وظلوا في مسيس الحاجة الى أن يدركوا، لأن كل إدراك هو إغراء أو إلزام بإدراك آخر، وإلا ذوى، واتخذوا اسماً لهم من التوحيد.. وعاشوا، حائرين حيرة الذي يراود المعارف، قلقين قلق الباحث عن تعريف.. فمرة هنا ومرة هناك ومرة هنالك. وهم هنا دائماً، في هذا المشرق، المطرز بالثقافات والرسالات واللغات والهجرات والإبداعات والبدع والهرطقات والفلسفات واللوحات والأيقونات والشرائع والأساطير والخرافات والمعلقات، الذي- المشرق- ينتظر يومياً، شمساً، تسافر الى الغرب يحمّلها شكاواه وأوجاعه وأحلامه وأسئلته وأشواقه، وينتظر عودتها حاملة له شيئاً من حقيقة لا تنمو إلا بالتواصل والتبادل.
موجودون في هذا الإيمان الذي كان التوحيد الإبراهيمي ناظمه، وكانت التوحيديات اللاحقة تجليات ومسالك للخلق، كل الخلق، الى الخالق.. وفي هذا الإسلام، الذي لو كان فيه سائد غالب قاهر، لكان يابساً، لا مكان فيه لشك لا يحلو اليقين إلا به.. وفي هذه العروبة، عروبة الانتماء، العروبة التي ترقى الى مستوى الوظيفة الحضارية، عندما تستخدم وجدانها ومخزونها المعرفي وبصيرتها في تجديد وعيها بذاتها وبالآخر.. وهم الدروز الموحدون.. وهو كمال جنبلاط، في هذا اللبنان البدعة البديعة التي يحسن للعرب جميعاً أن يتبعوها لا أن يزعزعوها. وفي هذا الجبل، ذي العمة البيضاء شتاءً، والعمة الخضراء ربيعاً وصيفاً.. وانتظار المطر خريفاً.. وتد الوطن، الذي به يثبت على الهزاهز، لأنه القمة التي يرى الناظر منها كل شيء دونه، ويرى الناظر اليها كل شيء فوقه. وهو، كمال جنبلاط، تقدمي، وأنا أريد أن أتقدم.. قال لي رسول الله (ص) «من تساوى يوماه فهو مغبون».. وأرى عوائق في وجهي وعلى طريقي، عرفت ما سموه لي إقطاعاً قياساً على مصطلح الغرب وتاريخه، قلت اسلم بأنه إقطاع ولكنه إقطاع مشرقي، على طريقة ماركس في الكلام عن أسلوب الإنتاج الآسيوي. ولكن المفهوم الطبقي لا يصلح وحده للإحاطة بالحقيقة ورسم الاحتمال أو مسار حركة التاريخ والمجتمع، والاختيار الشخصي، الفرادة، حاسمة في كثير من الأحيان، وكثيرون من أسلاف كمال جنبلاط، استمتعوا وأمتعونا باختيارات شجاعة سميت خيانات طبقية. واتفق أهل النظر ورضي أهل النضال بهذا الاتفاق، على أن الكادحين ليسوا هم الذين يبدعون نظريات خلاصهم، لأن أسباب ومستلزمات المعرفة لا تتوفر لهم، فيبدعها أولئك الذين هم فوق ولكن بصائرهم مفتوحة وضمائرهم عاملة دائبة.. من هذا الصنف كان كمال جنبلاط.

جان فولاذ أو بولاد

لاحقاً، وعندما سمعته بعيني بليغاً، ورأيته بأذني صامتاً، كان يرخي عينيه في صدره، كأنه سليل الحلاج، يرى الى النور الداخل.. تذكرت حيرتي في تفسير لقبه (جنبلاط). وكان عليّ أن أنتظر الذهاب الى طهران بعد نجاح الثورة لأتعلم الفارسية لزوم الثورة، التي تمحو ذاتها إن لم تجددها، لأفكك اللقب (جان بولاد) الفولاذي.. أو الروح الفولاذية.. القوي.. الصلب واللين الملمس. وعندما قتل كمال جنبلاط، كان بإمكانه أن لا يقتل، وأنا هنا أقترب من الاعتزال وأظنه أقرب الى الاعتزال مني، لأنه عقل عقلاني، أي يؤثر العقل الذي خلقه ربه وقال له: أقبل فأقبل وأدبر فأدبر (لأنه يعلم حقيقة الألوهة) فقال له: اي قال الله للعقل: إذهب، بك أثيب وبك أعاقب.. ولكنه كان يخاف أن يموت، فبقي على فولاذه، وقتل ليبقى حياً. ولكن لا تشعرون. هم لا يشعرون.. أي الذين قتلوه.

مواعيد وجدل

اقتربت منه وإليه من حقل التبغ.. وسهر الليالي وعذاب الأيام ومرارة الطعام وظلم الظلاّم وآكلي الحرام، ومستغلي الأنام. وعشت معه أياماً وهو مهتم ومهموم ومستبشر بترشيحي للانتخابات الفرعية في النبطية. مستأنساً برأي ورؤية محسن ابراهيم وحسيب عبد الجواد لهذا الأمر.. واعتذرت وأسلفته في بيان اعتذاري حباً وشكراً. فتكرم بالتنويه بي في مؤتمر الحزب العام بعدها.. أما أين وجدته أو شاهدته أو عاينته أو واعدته أكثر، ففي فلسطين، مع أبي عمار وأبي جهاد وسائر الأشباه والنظائر، يحب ويختلف، يحب ويخالف، يحب ويعترض، يحب ويخلص.. ووجدته في الحبكة الحائرة المحيرة بين السياسي والثقافي، بين السياسي المحترف، والمثقف القلق، الذي يرى ولا يكتفي بالنظر.
كيف وفـّق.. وفرض ظله هنا وهناك؟ حتى شعرنا بفراغ ثقافي في المجال السياسي، وبفراغ سياسي في المجال الثقافي، بعد أن تجرأ الأموات على حياته فاستقر في حياتنا. وكيف وفق؟ وبهذا المستوى الدرامي المفاجئ والذي لا يمكن تفسيره أحياناً.. وأنا لم أقطع في الثقافة ما قطع من مسافة. أما في السياسة فما زلت وسوف أبقى في أول الدرب. ومع ذلك فإن الحيرة تأكلني والقلق يساورني في كل شيء. لولا أني ثابت على أصول وأسس وأحلام، معضوداً بواقعية، وحس نقدي، ولا أصل الى واقعيته، لأني أقل قوى عضلية ونفسية منه، لأنه لم يكن يقبل على أكل اللحم وكان مفتوناً بالقمح الأخضر، وأحبّ اليوغا وأحبّ التأمل وأحبّ المعنى ومعنى المعنى.. أحبّ الحب وأنا أسلّم بأنه دين يدان به. ولكني أخاف من الذهاب الى الهند، ولا يمكن أن أتصور نفسي في شوارع نيويوك، وأحب القاهرة التي أحبها وأحبته كثيراً، وأهديه سلاماً، من ميدان التحرير، وأتذكر أنه في افتتاح دورة نيابية في مجلس الشعب المصري أواسط السبعينيات، وفي ذكرى وفاة جمال عبد الناصر (28 سبتمبر) ذكرى الانفصال أيضاً، وكنت في القاهرة، توجه الرئيس المصري الى كمال جنبلاط الجالس في الصف الأمامي وقال: يشرفني حضور رفيق درب جمال عبد الناصر، المناضل الكبير الاستاذ كمال جنبلاط. وأراه الآن في ميدان التحرير، وفي أمكنة اخرى كثيرة، لا يغادر إلا عندما يطمئن الى أن الديموقراطية والعدالة في البلاد العربية قد وجدتا طريقهما الصعب والمتعرج والباهظ.

القتل وموجباته

هذا الرجل.. من هذا البلد الصغير، من هذه الجماعة المذهبية الصغيرة.. من هذا الإرث الأرستقراطي الجميل وهذا الحنان الإنساني العميق. هذا اليتيم (وفي لغتنا اليتم هو الفرادة) يتجاوز ظروفه ويصبح شخصية عالمية!
إذن فيجب أن يقتل. لأن لبنان المطلوب يجب أن يكون بلا ذاكرة ولا حلم. وهنا تذكرت السيد موسى الصدر. سبحان الله! وهذا لبنان الآن على قلقه تصب ذاكرته في أحلامه وتنبع أحلامه من ذاكرته. ومن غده. من مشهد الربيع العربي الذي في كل وردة من وروده لون وعطر من لبنان. ووعد للبنان بلبنان. للعرب بلبنان. وللبنان بالعرب. وللبنان والعرب والربيع.. لكمال جنبلاط الذي نلقي على ضريحه كلماتنا. فإذا ما لامسته تفتحت زهوراً من بابونج وزوفى وجوري وإكليل الجبل وشعر كثير الشعر وإن كان أقل شعراً من الشاعر «كيف لهمس عطر الياسمين، مغنى الشعراء، أن يكون إلا شمِّي وأحساسي به، عند فيض الشعر مني، أنا الجمال؟» كمال جنبلاط.. هذا الكون من الحب.
مات؟
ابداً.. لقد شُبّه لهم.

زعيم الحب
« وهل الدين إلا الحب» الإمام جعفر الصادق
العبور إلى جنبلاط
«ولكن في الصمت الذي لا يوصف، تحت الأنا المضمحل، تحت كومة الرماد، تسكن الذات الراسخة في ليل حبي» (ص 32)
« وضعت على باب قلبي مشكاتين» . (ص 49)»
« سيكون طريق الحب مفتوحاً أبداً ، لكل من يريد التغلغل في حجرة الكنز» (ص 59)
هذا البحر من الحب، هذا الكون من الحب مات!! لا .. بل شُبّه لهم. 
(أناندا) لكمال جنبلاط
«يا حاصد النار من أشلاء، قتلانا منك الضحايا وإن كانوا ضحايانا
إن العيون التي طفَّأتَ أنجمها عجّلن بالشمس أن تختار دنيانا»
بدر شاكر السياب
أمير المعنى
«لأجلك عشت، لأجلك أعطيت، كما يعطى الفرح لكل الناس» (ص 28)
«ليس النسيان من الوردة سوى أريج محض، فالأغنية لا الشكل، هي روح القيثارة» (ص 64)
«أن تتأمـل ذاتـك، هكذا في العري الأعـظم، هو أن تكون في السكيـنة دون بـدء ودون ختام» (ص 66).
«أنت الحقيقة خلف ورقة الشجر، أنت غلاف الحياة في الثمرة الفجة» (ص 98) .
عابر الزمان والمكان
«ليكن إدراكك» بأني قلب القلب، بأني أزل، لم يقطع جسراً، بين ظاهر وباطن، لكن مغلِّف ذلك، بثوب مولاك، أنا المطلق.. أنا الكل، أنا الجزء أنا نور عينيك، أنا سمع أذنيك، أنا المستيقظ أبداً».
أناندا (ص 100).

بين النجف الأشرف وجبل عامل-1

15 فيفري

هناك علاقة متعددة المستويات المعرفية والأدبية والعلمية والاجتماعية بين النجف الأشرف وجبل عامل (الجنوب اللبناني). غير ان صورة هذه العلاقة كانت قبل قرن من الزمان أكبر وأشد وضوحاً وأكثر تداولاً، وبقيت تتراجع في الذاكرة والوعي والقول اليومي الى حد أنها أصبحت وكأنها فرضية تبحث عن أدلة تفصيلية لاثباتها، رغم تكرار القول بأنها عميقة جدا ومتشعبة ومتبادلة… ولعل الذي بعث على ترداد الكلام عنها مشفوعاً بالسؤال عن امكانية نهوضها (النجف) بعد محاولة الغائها من قبل النظام العراقي البائد والتي انتهت الى اضعافها مترافقة مع نهوض «قم» في ظل الثورة والدولة وتعاظم الحركة المعرفية العلمية فيها، هو ما حدث من اعادة تأسيس العراق على الحرية وبروز احجام وادوار مكوناته المرتجاة، أي زوال النظام الالغائي الذي ازعجه تاريخ النجف والذي جعلها رقيبة فاعلة على الحكومات المتعاقبة وشريكة في تقويضها من دون ان تكون النتائج لصالحها تماماً أو دواماً… ومن موقع المواطنة لا الوصاية الفقهية على الدولة والمجتمع.

مع اهتمام بالجواب عن التساؤل عما اذا كان في نية قم او طهران تهميش دور النجف فضلا عن قدرتها على ذلك، وعلى اساس ان النجف هي الحوزة الأم الى حد أن اي فقيه ايراني وحتى المراجع كانوا يشعرون بنقص في مرجعيهم ان لم يمروا بالنجف دارسين او مدرسين او باحثين. وفي الذاكرة ان المؤسس لقم في دورتها الجديدة في الربع الاول من القرن الماضي والرواد الكبار الذين عايشوه وثبتوا اسس الحوزة في قم كانوا جميعاً من المجتهدين خريجي النجف، وكان من بينهم قادة الحركة الدستورية في العام 1906 الذين كان لهم متمم قيادي في النجف فاعل ومؤثر ومن كبار المجتهدين ايرانيي الاصل وعراقيين وفي مقدمتهم الملا محمد كاظم الخراسايني (الآخوند)، وقبلهم كانت قيادة حركة التنباك في ايران بقيادة الشيخ محمد حسن الشيرازي الذي اسس فرعاً للنجف في سامراء التي استقبل فيها جمال الدين الافغاني الذي تأسس في النجف علمياً تحت رعاية المرجع المميز الشيخ مرتضى الانصاري، وظهرت مواهبه وشجاعته الفكرية مبكرا واحدثت بلبلة في الحوزة فنصحه الشيخ الانصاري بالمغادرة. وهنا تحسن العودة الى الموسوعات الرجالية واعلام الورى مثلا للشيخ آغا بزرك الطهراني او هكذا عرفتهم للأديب المميز جعفر الخليلي فضلا عن شعراء الغري لعلي الخاقاني، وغير ذلك.
ضمان ثقافي
وعودا على بدء فان الكلام عن العلاقة بين النجف وجبل عامل اصبح على درجة من الاجمال والتعميم بحيث يؤكد الحاجة الى دراسة تفاصيل هذه المسألة، لتحويلها الى معلومات تفصيلية واستنباط دلالاتها، بحثا عن وظيفة متجددة مشتركة للنجف وجبل عامل معاً… انطلاقاً من ان التعرف الى المكوّن النجفي في العقل والوعي والسلوك والادب العاملي، يشكل ضماناً ثقافياً ضرورياً، يشعر العاملي بموقعه ومكونه، ويشعر النجف بضرورة تجديد دورها في اعماقها العربية فضلا عن شبه القارة الهندية وغيرها.
وهنا لا بد من التوفر البحثي المنهجي المدعم بالأرقام والتفاصيل عن العائلات اللبنانية التي هاجرت الى النجف وعادت او استوطنت على موجبات الشراكة العلمية والادبية، واستكمال ذلك بدراسة العائلات العلمية العراقية التي هاجرت لأسباب ثقافية الى جبل عامل واستوطنت او عادت او تفرقت بين لبنان والعراق. واستطراداً لا بد من قراءة تفصيلية لادوار علمية عاملية في تاريخ النجف ممن كانوا في مقام المرجعية او قريباً منها، وكانت مؤلفاتهم العلمية في اختصاصات مختلفة اساسا في علم الحوزة ودراستها ومعرفتها. ولا بد من دراسة لبنان وجبل عامل في الشعر النجفي والعراقي ودراسة النجف والعراق في الشعر العاملي، ودراسة الموثرات النجفية في الحياة الخاصة للأسر العلمية وترشحاتها الى الحياة العامة من الطعام الى المصطلحات اليومية الى ذكريات الطلبة والعلماء والزوار الخ بالاضافة الى حركة المصاهرة التي تمت بين النجف وجبل عامل… مع ضرورة التركيز على شوامخ ادبية وثقافية نجفية من اصول لبنانية… قد يكون آخرها الدكتور عبد الرزاق محي الدين الذي توفي وهو رئيس للمجمع العلمي العراقي.

بين النجف الأشرف وجبل عامل- 2

15 فيفري

هناك حقل جميل من شأنه أن يشكل رياً للذاكرة المشتركة النجفية العاملية واللبنانية العراقية هو أدب وشعر الاخوانيات أي الأدب الذي امتاز بالظرف ودقة الملاحظة وأشر على تعدد في السليقة الادبية كان مصرد غنى للأدب العاملي والنجفي بل والعراقي. وتحولت فيه الاختلافات في العادات والتقاليد والمآكل ومصطلحات اللغة اليومية الى مفارقات ادبية وشعرية كشفت الحب العميق المتبادل والاعجاب المشوب بالدهشة، الى ما في الحياة من طرائف وفي الشعر والشعراء من ظرف، وبرز في هذا المجال أمثال الشيخ قاسم محي الدين والشيخ محمد رضا الزين والشيخ احمد رضا والشيخ سليمان ظاهر والسيد مصطفى جمال الدين في قصيدته الشهيرة «كيفون» وغيرها. وتكاد دواوين كبار الشعراء العامليين من علماء النجف وخريجيها تكون كتباً في العراق والنجف ومعناها العلمي والادبي وموقعها الوجداني… مع اطلالات على موضوعات اخرى.

بالتالي نحن مدعوون الى استكمال ما بدأه الرواد من صدر الدين شرف الدين ومحمد شرارة في الصحافة والادب النجفيين وفي وقت مبكر، الى الجهد المشكور الذي بذله المؤرخ والاديب والناقد الشيخ علي الزين في دراسته للأدب العاملي. في أواسط القرن الماضي مربوطاً بمنابعه ومؤثراته النجفية. ولعل التوفر على تراث الشاعر محمد علي الحوماني في ادبياته العراقية في كتابيه «بين النهرين» و«حديث الرافدين» يشكل مادة للبحث والمعرفة والتذكر ويمهد مع غيره لاعادة بناء العلاقة على اساس التداول والتبادل والتكامل، لأنه لا بديل للنجف في افق الثقافة العاملية مهما بذل المهتمون بغير النجف لأسباب سياسية، من جهود لأن الشراكة التاريخية اساس في هذه المسألة. كما ان اللغة، في هذه الحال، هي اكثر من اداة ايصال، بل هي مقام معرفي جامع للحساسيات المشتركة والاذواق المتصلة. كانت العلاقة عميقة ويجب ان تصبح معرفتنا بها عميقة وتصبح ارادتنا في اعادتها الى سياقها النامي قوية على اساس ان ذلك ضروري جدا لنا وللنجف.
بالنسبة الىاختيار النجف عاصمة ثقافية اتمنى ان يكون معنى النجف في هذا الاختيار ابعد وأوسع من الجغرافيا وأن يكون التاريخ النجفي موضوعا في سياقه الذي يتعدى النجف ثقافياً وعلمياً وجهادياً ليصل الى بغداد ماراً بالضرورة بالكوفة، الحاضرة التي يجب ان تبقى حاضرة، وصولا الى كربلاء التي شكلت مددا مر وبديلا ضروريا مرة في اوقات الشدة للنجف فأسهمت في حفظها… وبغداد، التي ولدت النجف من رحمها العلمية في لحظة مأساوية، طبعا مع ملاحظة تأثير العتبات المقدسة على هذا التواصل… وبعد هذا لا بد من استكشاف العلاقة التبادلية بين البصرة والنجف والكوفة حتى لا تبدو النجف وكأنها بنت لحظتها. الى ذلك… فإني بقدر ما انا فرح باعلان النجف عاصمة ثقافية اسلامية (وعربية ايضاً وعراقية كذلك) فإني اخاف ان لا يكتمل فرحي بانجاز كبير بمستوى النجف يتحقق من خلال الفعاليات المنوي القيام بها احياء لهذه المناسبة العظيمة… وهنا أتساءل عما اذا كانت المناسبة سوف تتحول الى احتفالات مديح بالانشاء الكلاسيكي أم أن هناك ورشاً ومراكز بحث قد انشئت لتقدم صورة مركبة وعلمية عن النجف لا تخاطب القارئ او المشاهد النجفي وحده، بل والعراقي ايضاً، ولا الشيعي وحده بل والاسلامي عامة، ولا المسلم وحده بل العالم كله خاصة في هذه اللحظة التي تنفتح خلالها أعين العالم على النجف… ولا العراقي وحده بل العربي ايضاً… بمعنى هل ستكون قراءاتنا للنجف مقدمة لنهوض نجفي جديد وحديث موصول بالاصول، يحفظ الثابت والموروث بالمستجد والمتغير ويستوعب المتغير، والمستجد بأصالة عميقة تدرك ان تراثنا هو ما نضيف اليه لا ما نستهلكه.
اتمنى ان نقرأ دراسات مستفيضة غير مشغولة بتبسيط او تجاهل عن تاريخ الاحداث والمنجزات والمتحولات. اتمنى ان يتوفر علماء النجف ومثقفوها الجادون والحاملون للاسئلة والمزودون بقلق معرفي حقيقي، على النجف في محطاتها ومنعطفاتها متذكرين ان اول مواجهة للاستعمار انطلقت من النجف في ثورة التبغ، وان أول حراك فقهي نحو تكييف الدولة الحديثة في الحركة الدستورية (المشروطة والمستبدة) وفي مؤلفات الميرزا النائيني، كان في النجف، وان اجمل حركة تحديث فكرية غير تبسيطية او انفعالية قادها السيد هبة الدين الشهرستاني ابن بيئته.

-بين النجف الأشرف وجبل عامل -3

15 فيفري

هناك مواهب مرجعية أسهمت في تقديم النجف الى العراق والعمق والمحيط بصورة الحوزة العارفة والمسؤولة، وهنا لا بد من اعادة تظهير حركة المرجع الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء واهتماماته بالمستجدات والتحديات، وحضوره المميز في العام 1931 في مؤتمر القدس الى رحلات الشيخ عبد الكريم الزنجاني الغنية… وبعد ذلك الى جمعية منتدى النشر والآفاق التي رسمتها كلية الفقه وطموحها، وحركة الشيخ المظفر العابرة لحدود العراق والنجف الى الآفاق العربية. وبعد وعلى طريقة السيد محمد تقي الحكيم، الى تصدي المرجع السيد محسن الحكيم للقضايا القومية والوطنية بجدارة عالية، الى عناية السيد الخوئي بتخريج المجتهدين واعلاء شأن العلم والعلماء، الى بروز نموذج كالسيد محمد باقر الصدر الذي لن يغيب أثره عن عقل النجف، الى الطلاب العرب واللبنانيين خصوصاً من العلماء والأدباء والمفكرين الذين حملوا النجف الى العالم بعد ما حملتهم ومعهم علماء توغلوا في أقاصي الدنيا موصولين بالنجف علماً وقيماً.

ولا بد من التوقف عند ثورة العشرين وثورة النجف وحصارها ومحطات النجف الأخرى والمميزة والتي، وللأسف، لم نجد في النجف مؤسسة بحثية او دراسية لتعلمنا ذلك، فكان أن تعلمناه ناقصاً عندما خرجنا مرغمين من النجف وندمنا على ما فرطنا او فرطوا في حقها وحقنا، لأننا ويا للأسف اكتشفنا المزيد من أهمية النجف عندما كبرت المسافة بيننا وبينها وكأن الداخل لا يرى إلا من زوايا محدودة سواء كان أصيلاً أو زائراً أو مقيماً على أهبة العودة الى بلده.
هل ننتظر أن تكون المناسبة بشارة بعناية مؤسسية علمية بالتاريخ العام، وتاريخ النجف وأدب النجف، والنسيج الاجتماعي للنجف وأماكن النجف وتفاصيل المكان وذاكرته، ومؤسسة مثيلة لطرح السؤال الفلسفي واللاهوتي امتداداً الى حقول معرفية وعلمية حديثة يمكن ان تدخل ثمراتها في عملية الاستنباط الفقهي؟ هل تتحول النتف عن تاريخ علم الاصول ومنهجياته وتاريخ الفقه الى اختصاص مفيد؟ وهل نقرأ دراسة موضوعية نقدمها للآخرين الباحثين عن علمنا ومعاناتنا لا عن عواطفنا، عن المحنة التي مرت بها النجف على مدى ثلث قرن، وماذا قدمت وخسرت، كيف صمدت وصبرت وماذا ربحت؟ وهنا يحسن أن يقال ما جرى لضيوف النجف من سائر الاقطار، وخصوصا الذين هجروا او عذبوا او قتلوا من اللبنانيين وغيرهم، ومن أين اتت هذه المرجعيات المميزة؟ وكيف عاشت وقرأت وعلّمت تحت القمع والمنع وفي ظل القتل اليومي؟ هل تتحول النجف الى كم ونوع معرفي وعلمي متجدد يستدرج الباحثين من كل مكان، ويتعدى الاحتياجات العابرة للقارئ المحلي؟ هل نكف عن مديح النجف ونبحث عن طرق ووسائل لنهوضها الذي ينتظره الجميع… حتى لا يلتبس المديح بالرثاء. ولم يلاحظوا على مدى ثماني سنوات من التغيير السياسي والحرية، انه قد ابتدأ فعلاً، ولم يسألوا لماذا؟ طبعاً انا لا ادعو الى ثورة، بل ادعو الى عملية تطوير للحوزة من داخلها وبقوانينها لأن التطوير من الخارج ضار ولا يجدي… على ان تبقى هناك مساحة للاعتراض والحوار معا، حتى لا نتحول الى متصارعين او متساجلين فنعطل كل شيء، هذا مع العلم ان هناك اصواتا جادة في النجف بدأت ترتفع باحثة عن منعطف شامل وهادئ، وهي تحذر من الكسل او البطء او الطمأنينة المفرطة التي تقوض دور النجف وتلغي تاريخها. اتمنى ان نعيد تأسيس هذه العاصمة على ما يعصمنا من الخطأ والزلل والقصور والتقصير، وألفت النظر الى ان لبنان بتعدده وتداخل التجارب الاجتماعية والثقافية فيه وتكاملها، قد تحول الى منبر للنجف ومتنفس لها في السراء والضراء، وكان العراق الادب والسياسة والاجتماع والذاكرة والحلم يتسريح في لبنان ويحدد حيوياته ويحمل انطباعاته الى موطنه مسكونة بالحنين والاعجاب. وكثيرا ما كان المصطافون من ادباء العراق وعلمائه يؤثرون الاقامة في قرى الجبل اللبناني التي تكون على صلة ما بجبل عامل وعلمه وعلمائه ومكوناته العراقية والنجفية، وكان الصيف اللبناني يحفل بالسهرات والندوات العلمية والادبية حيث يلتقي العراقيون مع العرب اجمعين في ظل الارز وعلى مهب الرياح وروائح التفاح حيث يشتعل الشوق، شعرا الى دجلة والفرات والنيل والبرحي الحلاوي والزغلولي المصري (زين العصاري) وصياد السمك في الأهوار مشغولاً بطلب حبيبته ان يصطاد لها (بنية). طبعاً، في النهاية، هناك سؤال مشروع: هل يمكن ان نحلم او نتوقع بنهوض نجفي من دون نهوض عراقي عام؟ وهل نتوقع نهوض الحوزة من دون نهوض الدولة؟ أو لا نرى ان الحوزة متعثرة في نهوضها لأن الدولة متعثرة في تكونها وان من تصدوا لبناء الدولة اقرب الى الاعاقة منهم الى العَثَرة!

فلسطين ليست غائبة عن ربيع العرب

15 فيفري

قبل أسابيع لاحظ، بقلق، عدد من الأصدقاء في قيادة حركة (فتح) أن فلسطين تكاد تكون غائبة أو مغيبة عن الخطاب اليومي والسياسي لساحات التحرير وشوارع الشعوب في بلادي الربيع العربي الراهن والواعد.

من حق الفلسطيني ان لا يرى شيئا ولا أحداً إلا بعين فلسطين… ومن حقي وحقه عليّ أن أكون على مسافة منه، ولو وهمية، لأرى بعيني وأمنحه العين وما رأته من دون منة مني عليه، لأني فلسطيني أيضا.. لا بالعدوى… بل بالوجع والرجاء الذي لطول معاناته ومعايشته يدخل في خارطة الجينات.. لتصبح فلسطين خارطة العرب من أقصى الماء إلى أقصى الهواء.

من حقي أن أرسم المعادلة التالية، وهي أن كل الانقلابات العربية التي حدثت بعد النكسة، قد جاهرت بأن فلسطين هي السبب والغاية للانقلاب. ولم تنس الحرية في بياناتها الأولى ولا التقدم والوحدة. ما آل إلى مزيد من التخلف وإلى التفتيت الوطني بدل الوحدة القومية.. ثم عادت وسحبت الحرية من التعامل الإعلامي، بعد ما سحبتها من التداول العملي.. وجاهرت بأن كل ما فعلته وتنوي فعله من منكرات هو من أجل فلسطين التي حولتها إلى غطاء لموبقاتها وهكذا تم رفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» على حساب فلسطين لا لحسابها.. وتعطل العقل والقلب واللسان والفن والأدب والزراعة وفسد الماء والهواء برائحة الشواء وأنين المطمورين أحياء في المقابر الجماعية.

بعدما فرغت الجيوش بعدتها وعديدها للحاكم الفرد والفذ، ووضعت في إمرة أولاده وأصهاره، من رتبة رقيب وما دون، فإن ارتفع اللقب كان مزوراً أو مجوفاً أو بنيت في موازاتها أجهزة الأمن المتصارعة على النفوذ والسلب والنهب وبميزانيات عملاقة… وإذا كان الأمر قد تطلب أحياناً خوض معارك محددة الأهداف سلفاً، حتى لو كانت قدراتها تتخطى هذه الأهداف، فقد تحولت الانتصارات العسكرية الحقيقية لجهة المقاتلين والشهداء، إلى هزائم سياسية مكشوفة، لجهة الحكام.. لقد كانت إسرائيل منذ النكبة، تبدي قلقاً سطحياً من كل انقلاب، ولا تلبث بعد ان تقرأ سيرة زعمائه أو برامجهم، وتكتشف تناقضاتهم ومطامعهم المتقابلة أو المتقاطعة، فتجنح إلى الطمأنينة وترتاح لقدرة الخطابة العربية على ستر عورات الحكام. لقد سمع الصهاينة صوت أديب الشيشكلي، العقيد أيضا، وهو يقسم «أن لا نغمد سلاحنا حتى ننقذ فلسطين» بعد أشهر من فراره من مركز قيادته لكتيبة من الجيش السوري في صفد، دون أن ينسى أن يأخذ معه عدداً كبيراً من قطع السلاح الثقيل والخفيف والذخائر، ويسلمها إلى شقيقه صلاح ليبيعها لمن يشاء، حتى إسرائيل، في السوق السوداء يمعن هو قمعاً واضطهاداً وفساداً وإفساداً وكذباً على الأمة، بالتحالف المشبوه مع الزعيم القومي أكرم الحوراني.. سمعه الصهاينة فاطمأنوا، واستمرت الانقلابات العسكرية العربية لتزيدهم طمأنينة.

أما الآن فها هي إسرائيل، وعلى لسان نتنياهو، تتمنى عودة نظام حسني مبارك إلى مصر، معتبراً أن الثورات العربية زلزال، وأنها تقوم على العداء للغرب وإسرائيل، بعدما شاهد تمريناً للشعب اليهودي على الاحتجاج في اسرائيل متأثراً بالربيع العربي.. أما العداء للغرب فسببه إسرائيل.

ونحن لم نسمع من شباب الربيع العربي حتى الآن كلاماً عقائدياً عن العداء للغرب، بل هو كلام سياسي عقلاني وعميق مبني على الخوف والرجاء، بأن لا تعمد الدول الغربية إلى تلغيم المسار الديموقراطي لثورات الربيع العربي، وتعمل على إعادة إنتاج الاستبداد بالديموقراطية.. إذن فهو عداء طبيعي جاهز للتخفيف حتى آخر مدى، بالحوار والتفاهم والاطمئنان الموثق إلى مصداقية الغرب في انحيازه لحرية الشعوب العربية، علماً بأن في الشعوب الغربية مساحات فهم وتفاهم وتضامن متجدد وشجاع تغرينا بالتمييز بين الإدارة الغربية وشعوبها، هذا إلى ان هناك إدارات غربية مختلفة ومتفاوتة في فهمها لعدم منطقية تجاهل الواقع، وإعادة النظر في تعميماتها المغلقة حول العلاقة التبادلية مع العرب والمسلمين.

قبل ما يقرب من أربعين سنة، كنا نتحاور مع قيادات بعثية لبنانية، من خط العراق، طردت من الحزب بسبب صدقها في مواقفها من المقاومة الفلسطينية وإصرارها على عدم القطيعة والعداء لحركة (فتح) وأبي عمار خصوصاً.. وتورطوا، وهم مجمل القيادة القطرية وقيادة جبهة التحرير العربية، في أنهم جاهروا بأنهم لا يصدقون الأنظمة العربية التقدمية في دعواها الفلسطينية، لأنها لا تبدي حرصاً على تحقيق الحرية والديموقراطية لأحزابها وشعوبها، مؤكدين ان الحرية هي معيار الصدقية، وهي التي تؤهل أي شعب أو جيش أو نظام للمشاركة الحقيقية في المواجهة والتحرير… ولم تلبث فضيحة عمان وتصرفات الأنظمة وقيادات الجيوش العقائدية، أن أثبتت صحة نظرتهم. وعليه فإن أفضل وأدوم وأصدق وأنبل أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، هو هذا الكلام القليل الذي يشبه الصمت البليغ، في المشهد العربي المستمر في تشكله والواعد المليء بالرجاء، لأنه محكوم بالضمير والمعرفة والطموح إلى مستقبل عربي مصري، وليبي وتونسي… و… و.. ولن يكون مستقبلاً حقيقياً وعصرياً وأصيلا، ما لم يكن عربياً في عمقه ومداه وأحلامه، ولم تكن عروبة الانتماء ثقافة وذاكرة وحساسية حضارية حوارية، وهي جامعه ودافعه إلى التواصل والتضامن والتكامل… وهنا تستريح فلسطين ولا تستعجل ولا تؤجل، ويستريح شعبها المعني أولا معنا لا من دوننا، لأنه صاحب الحق الذي يتصل بحقوقنا.. وهنا يكون الشباب قد اكتشفوا الشرط الفلسطيني لأوطانهم ومستقبلهم وحريتهم وتقدمهم واندماجهم في أوطانهم وأقوامهم وفي ظل دولهم المدنية العصرية الجامعة لهم تحت سقف الحق والقانون، مفتوحي العيون على فلسطين، متيحين لنا مرة ثانية الفرصة بالمجاهرة بأن فلسطين هي قضية قضايانا، وأنها المكان والمعنى الذي تجتمع فيه أجيالنا الآتية، وتشترك في تحرير مساحات المشترك بينها.

ولأنهم، أي شباب الربيع، مشغولون بتحقيق شروطهم الوطنية (الكيانية) من أجل أوطانهم المتفرقة، المجتمعة في العروبة والنهضة وفلسطين، فإنهم وإن قللوا من مفرداتها في كلامهم اليومي، فإننا نراها في حدقات عيونهم وقسمات وجوهم وثنايا أحلامهم التي تنطوي عليها.

أثناء العدوان الصهيوني عام 1978 كنت عائداً من مصر والتقيت الحكيم خليل الوزير في غرفة العمليات في صيدا، ومعه بعض من أهل الفكر والنضال يستشيرهم في كل شيء.. فقال خبرنا عن مصر.. فخبرته كثيراً… ولكن ظهرت على حالة من الضيق لأن المصريين دخلوا في حالة تعصب شديد لمصريتهم بعد كامب ديفيد، فرد أبو جهاد علي وعلى رفاقه الذين وافقوا على مشاعري بالقول، هذه عصبية وطنية تحمي مصر من الأعداء في النهاية.. ثم في أقرب فرصة تعود عواطف المصريين إلى نصابها العربي.. فلماذا هذا القلق وهذا الاستعلاء على الشعب المصري؟ وقد عرفنا لاحقاً أن القيادة الفلسطينية كانت تتلقى برقيات من ضباط مصريين كبار تطوعوا لمراقبة سير الاجتياح بدقة، وجنبوا الجانب الفلسطيني كثيراً من الخسائر، ومن دون الاستئذان من قياداتهم العليا والأعلى.

إن فلسطين التي تألقت في الأونيسكو هي فلسطين التي وصلت إلى وعي الشعوب ووجدانها وحركة انتاج المعرفة لدى مبدعيها ومفكريها، فاستجابت حكومات كثيرة متناغمة مع شعوبها، وكابرت الديناصورات متفارقة مع شعوبها.. ولكنه انتصاره وإن الانتصارات ولو كانت صغيرة، إذا تكاثرت تصبح انتصارا كبيرا كما كان يردد الصبور أبو جهاد.
لقد تزامن ذلك مع الخطاب التاريخي للرئيس محمود عباس، مؤشراً على أن فلسطين، سوف تستكمل خطوة أبي عمار في الأمم المتحدة في عام 1974 لتنتقل عاجلا أم آجلا من موقع المراقبة إلى العضوية الكاملة، بعدما صارت عضوا حساساً وفاعلاً في منظومة الثقافة الكونية. والسؤال.. هل كان لهذا الانجاز ان يتم بهذه الصورة ولهذا الرجاء ان ينعقد وكأنه آت لا محالة.. لولا ما فهمه العالم من معنى فلسطين في حركة الشباب العربي نحو الحرية؟